فصل: تفسير الآيات رقم (128- 130)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير السمرقندي، المسمى «بحر العلوم» ***


قوله تعالى‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏128- 130‏]‏

‏{‏وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ‏(‏128‏)‏ وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏129‏)‏ وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا ‏(‏130‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِنِ امرأة خافت‏}‏ أي علمت ‏{‏مِن بَعْلِهَا‏}‏ يعني زوجها ‏{‏نُشُوزاً‏}‏ يعني عصياناً في الأثرة ‏{‏أَوْ إِعْرَاضاً‏}‏ عنها وترك محادثتها، نزلت في رافع بن خديج تزوج امرأة أشبّ من امرأته خولة بنت محمد بن مسلمة‏.‏ وقال في رواية الكلبي‏:‏ نزلت في ابنة محمد بن مسلمة، وفي زوجها أسعد بن الزبير تزوجها وهي شابة، فلما أدبرت وعلاها الكبر تزوج عليها امرأة شابة وآثرها عليها، وجفا بنت محمد بن مسلمة، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فشكت إليه فنزل‏:‏ ‏{‏وَإِنِ امرأة خافت مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً‏}‏ يعني ترك مجامعتها ‏{‏أَوْ إِعْرَاضاً‏}‏ يعني يعرض بوجهه ويقل مجالستها ومحادثتها ‏{‏فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا‏}‏ أي لا إثم على الزوج والمرأة ‏{‏أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً‏}‏ قرأ أهل الكوفة عاصم وحمزة والكسائي ‏{‏أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا‏}‏ بضم الياء والتخفيف، وهو من الصلح‏.‏ وقرأ الباقون ‏{‏ءانٍ‏}‏ بالألف وتشديد الصاد، لأن أصله وتصالحا فأدغمت التاء في الصاد، وأقيم التشديد مكانه/

ثم قال‏:‏ ‏{‏صُلْحاً والصلح خَيْرٌ‏}‏ يعني الصلح خير من الفرقة‏.‏ ويقال‏:‏ الصلح خير من النشوز، ويقال‏:‏ الصلح خير من الخصومة والخلاف‏.‏ وروي عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنِ امرأة خافت مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً‏}‏ قال‏:‏ قول الرجل لامرأته أنت كبيرة، وإني أريد أن أستبدل بك شابة، فقري على ولدك ولا أقسم لك من نفسي شيئاً ورضيت بذلك، فذلك الصلح بينهما‏.‏ قال‏:‏ وهذا قول أبي السنابل بن بعكك حين جرى بينهما هذا الصلح، ثم صارت الآية عامة في جواز الصلح الذي يجري فيما بين الناس، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والصلح خَيْرٌ‏}‏‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَأُحْضِرَتِ الأنفس الشح‏}‏ يعني الشح حملها على أن تدع نصيبها، ويقال‏:‏ شحت المرأة بنصيبها من زوجها أن تدعه للأخرى، وشحّ الرجل بنصيبه من الأخرى‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ طمعها وحرصها يجرها إلى أن ترضى‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن تُحْسِنُواْ‏}‏ يقول تحسنوا إليهن ‏{‏وَتَتَّقُواْ‏}‏ الميل والجور ‏{‏فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً‏}‏ في الإحسان والجور‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النساء‏}‏ يقول‏:‏ لن تقدروا أن تسووا بين النساء في الحب بين الشابة والكبيرة ‏{‏وَلَوْ حَرَصْتُمْ‏}‏ أي ولو جهدتم، ولكن اعدلوا في القسمة والنفقة ‏{‏فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الميل‏}‏ بالنفقة والقسمة إلى الشابة ‏{‏فَتَذَرُوهَا كالمعلقة‏}‏ بغير قسمة كالمسجونة لا أيم ولا ذات بعل‏.‏ وروي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «مَنْ كَانَ لَهُ امْرَأَتَانِ، فَمَالَ إِلَى إحْدَاهُمَا جَاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ وَشِقُّهُ مَائِلٌ» وفي رواية أخرى

«وَأَحَدُ شِقَّيْهِ سَاقِطٌ» وروى أبو أيوب عن أبي قلابة قال‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل في القسمة ويقول‏:‏ «اللَّهُمَ هذا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ فَلاَ تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِكُ وَلا أَمْلِكُ» يعني الحب والجماع‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن تُصْلِحُواْ‏}‏ يعني تصلحوا بينهما بالسوية ‏{‏وَتَتَّقُواْ‏}‏ الجور والميل ‏{‏فَإِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً‏}‏ حيث رخص لكم في الصلح‏.‏ ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏وَإِن يَتَفَرَّقَا‏}‏ يعني الزوج والمرأة ‏{‏يُغْنِى الله كُلاًّ مّن سَعَتِهِ‏}‏ يعني من رزقه‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ يعني الطلاق‏.‏ وروي عن جعفر بن محمد أن رجلاً شكا إليه الفقر فأمره بالنكاح، فذهب الرجل وتزوج ثم جاء إليه فشكا إليه الفقر، فأمره بالطلاق، فسئل عن ذلك فقال‏:‏ أمرته بالنكاح‏.‏ وقلت‏:‏ لعله من أهل هذه الآية ‏{‏وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ والصالحين مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغْنِهِمُ الله مِن فَضْلِهِ والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 32‏]‏ فلما لم يكن من أهل هذه الآية‏.‏ قلت‏:‏ فلعله من أهل هذه الآية ‏(‏وإن يتفرقا يغن الله كلاًّ من سعته‏)‏ وروي عن أبي بن كعب أنه كان يقرأ‏:‏ فَتَذَرُوهَا كَأَنَّهَا مسجونة‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وَكَانَ الله واسعا‏}‏ يعني واسع الفضل ‏{‏حَكِيما‏}‏ حكم بفرقتهما وتسويتهما‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏131- 134‏]‏

‏{‏وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا ‏(‏131‏)‏ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ‏(‏132‏)‏ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآَخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا ‏(‏133‏)‏ مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ‏(‏134‏)‏‏}‏

‏{‏وَللَّهِ مَا فِى السموات وَمَا فِي الارض وَلَقَدْ وَصَّيْنَا‏}‏ أي أمرنا ‏{‏الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ‏}‏ يعني أهل التوراة والإنجيل ‏{‏وإياكم‏}‏ يعني أمرناكم يا أمة محمد عليه السلام في كتابكم ‏{‏أَنِ اتقوا الله‏}‏ فيما أوصاكم به في كتابكم من التوحيد، ثم بعد التوحيد بالشرائع ‏{‏وَإِن تَكْفُرُواْ‏}‏ يقول‏:‏ تجحدوا بما أوصاكم وبوحدانية الله تعالى ‏{‏فَإِنَّ للَّهِ مَا فِى * السموات وَمَا فِي الارض‏}‏ يعني هو غني عن عبادتكم ‏{‏وَكَانَ الله غَنِيّاً‏}‏ عن إيمان الخلق وطاعتهم ‏{‏حَمِيداً‏}‏ محموداً في أفعاله‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَللَّهِ مَا فِى * السموات وَمَا فِي الارض‏}‏ يعني كلهم عبيده وإماؤه، ويقال‏:‏ هذا موصولاً بالأول، وكان الله غنياً حميداً في أفعاله، لأن له ما في السموات وما في الأرض، وهو رازقهم والمدبر في أمورهم‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وكفى بالله وَكِيلاً‏}‏ أي حفيظاً وربّاً، ثم ذكر التهديد لمن رجع عن عبادته فقال‏:‏ ‏{‏إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا الناس‏}‏ أي يهلككم إذا عصيتموه ‏{‏وَيَأْتِ بِاخَرِينَ‏}‏ أي يخلق خلقاً جديداً غيركم من هو أطوع لله منكم، وهذا كما قال في آية أخرى ‏{‏هَآ أَنتُمْ هؤلاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ فِى سَبِيلِ الله فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ والله الغنى وَأَنتُمُ الفقرآء وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يكونوا أمثالكم‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 38‏]‏‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَانَ الله على ذلك قَدِيراً‏}‏ أي يذهبكم ويأتِ بغيركم‏.‏ ويقال‏:‏ في الآية تخويف وتنبيه لجميع من كانت له ولاية أو إمارة أو رئاسة، فلا يعدل في رعيته أو كان عالماً، فلا يعمل بعلمه ولا ينصح الناس أن يذهبه ويأتي بغيره‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدنيا‏}‏ يعني من كان يطلب الدنيا بعمله الذي يعمل ولا يريد به وجه الله، فليعمل لآخرته كما قال‏:‏ ‏{‏فَعِندَ الله ثَوَابُ الدنيا والاخرة‏}‏ يعني الرزق في الدنيا والثواب في الآخرة، وهو الجنة‏.‏ ويقال‏:‏ في الآية مضمر فكأنه يقول‏:‏ من كان يريد ثواب الدنيا نؤته منها، ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها، فعند الله ثواب الدنيا والآخرة‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ كان المشركون مقرين بأن الله خالقهم، وأنه يعطيهم خير الدنيا، فأخبر الله تعالى أن خير الدنيا والآخرة إليه‏.‏ وروي عن عيسى ابن مريم أنه قال للحواريين‏:‏ أنتم لا تريدون الدنيا ولا الآخرة، لأن الدنيا والآخرة لله تعالى، فاعبدوه إما لأجل الدنيا وإما لأجل الآخرة‏.‏ وروي في بعض الأخبار أن في جهنم وادياً تتعوذ منه جهنم، أعد للقراء المرائين‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وَكَانَ الله سَمِيعاً بَصِيراً‏}‏ يعني عالماً بنية كل واحد منهم‏.‏ وروى سهل بن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «نِيَّةُ المُؤمِنِ خَيْرٌ مِنْ عَمَلِهِ، وَعَمَلُ المُنَافِقِ خَيْرٌ مِنْ نِيَّتِهِ» وكان يعمل على نيته‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏135- 137‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ‏(‏135‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا ‏(‏136‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا ‏(‏137‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ياأيها الذين ءامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بالقسط شُهَدَاء للَّهِ‏}‏ أي كونوا قوامين بالعدل، وأقيموا الشهادة لله بالعدل، ومعناه قولوا الحق ‏{‏وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ‏}‏ أي وإذا كانت عندكم شهادة، فأدوا الشهادة ولو كانت الشهادة على أنفسكم ‏{‏أَوِ الوالدين والاقربين‏}‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً‏}‏ أي أدوا الشهادة لا تكتموها، سواء كان لغني أو لفقير، ولا تميلوا إلى الغني لأجل غناه، ولا تكتموا الشهادة على الفقير لأجل فقره‏.‏ ويقال‏:‏ اشهدوا على الوالدين كانا غنيين أو فقيرين ‏{‏فالله أولى بِهِمَا‏}‏ أي بالغني وبالفقير‏.‏ ويقال‏:‏ أولى بالوالدين وأرحم بهما إن كانا غنيين أو فقيرين‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏فَلاَ تَتَّبِعُواْ الهوى‏}‏ أي لا تشهدوا بهواكم، ولكن اشهدوا على ما شهدتم عليه‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَن تَعْدِلُواْ‏}‏ يعني أولى بهما أن تعدلوا على وجه التقديم والتأخير‏.‏ ويقال‏:‏ فلا تتبعوا الهوى أن لا تعدلوا‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ يعني فلا تتبعوا الهوى للقرابة، واتقوا الله أن تعدلوا عن الحق إلى الهوى‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن تَلْوُواْ‏}‏ أي تحرفوا الشهادة وتلجلجوا بها ألسنتكم، فلا تقيموها على الوجه لتبطل به الشهادة ‏{‏أَوْ تُعْرِضُواْ‏}‏ عنها فلا تشهدوا بها عند الحاكم‏.‏ قرأ حمزة وابن عامر‏:‏ ‏{‏وَأَنْ‏}‏ بواو واحدة يعني من الولاية، يعني أقيموا الشهادة إذا وليتم‏.‏ وقرأ الباقون‏:‏ ‏{‏وَإِن تَلْوُواْ‏}‏ بواوين من التحريف ‏{‏فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ‏}‏ من كتمان الشهادة وإقامتها ‏{‏خَبِيراً‏}‏ يعني عالماً‏.‏ فهذا تهديد للشاهد لكيلا لا يقصروا في أداء الشهادة ولا يكتموها‏.‏ وقال النبي صلى الله عليه وسلم «مَنْ كَانَ يُؤمِنُ بِالله واليَوْمِ الآخِرِ فَلْيُقِمْ شَهَادَتَهُ عَلَى مَنْ كَانَتْ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِالله وَاليَومِ الآخِرِ فَلا يَجْحَد لِحَقَ هُوَ عَلَيْهِ بَلْ يُؤَدِّهِ، وَلاَ يُلْجِئْهُ إِلَى السُّلْطَانِ والخُصُومَةِ»

قوله تعالى ‏{‏خَبِيراً يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ ءامِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ‏}‏ قال الضحاك‏:‏ يعني أخبار أهل الكتابين الذين آمنوا بموسى وعيسى، آمنوا بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقال في رواية الكلبي‏:‏ نزلت في عبد الله بن سلام وأسيد وأسد ابني كعب، وثعلبة بن قيس وغيرهم، قالوا‏:‏ يا رسول الله نؤمن بك وبكتابك وبموسى والتوراة وبعزير، ونكفر بما سواه من الكتب والرسل‏.‏ فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «بَلْ آمِنُوا بِالله وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَكِتَابِهِ القُرْآنِ، وَبِكُلِّ كِتَابٍ كَانَ مِنْ قَبْلُ» فنزلت هذه الآية ‏{‏خَبِيراً يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ ءامِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ والكتاب الذى نَزَّلَ على رَسُولِهِ والكتاب الذى أَنَزلَ مِن قَبْلُ‏}‏ ويقال‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّ الذين كَفَرُواْ‏}‏ خاطب به جميع المؤمنين، آمنوا بالله يعني اثبتوا على الإيمان‏.‏

وقال‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّ الذين كَفَرُواْ‏}‏ يعني يوم الميثاق ‏{‏بالله وَرَسُولِهِ ثُمَّ‏}‏ ويقال‏:‏ نزلت في شأن أهل الكتاب لأنه علم أن فيهم من يؤمن، فلقربهم من الإيمان سماهم مؤمنين كما قال‏:‏ ‏{‏واترك البحر رَهْواً إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 24‏]‏ وكانوا لم يغرقوا بعد‏.‏ ويقال‏:‏ إنهم كانوا يقولون نحن مؤمنون فقال لهم‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّ الذين كَفَرُواْ‏}‏ أي بزعمهم كما قال ‏{‏ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 49‏]‏ أي بزعمه‏.‏ قرأ نافع وعاصم عن حمزة والكسائي ‏{‏والكتاب الذى نَزَّلَ‏}‏ بنصب النون والزاي ‏{‏والكتاب الذى نَزَّلَ‏}‏ بنصب الألف‏.‏ وقرأ الباقون ‏(‏نزل‏)‏ بضم النون وكسر الزاي، ونزل وأنزل بضم الألف على معنى فعل ما لم يسم فاعله‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَمَن يَكْفُرْ بالله وَمَلَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ واليوم الاخر‏}‏ أي من يجحد بوحدانية الله تعالى وملائكته أنهم عبيده، وبرسله أنهم أنبياؤه وعبيده، وبالبعث بعد الموت ‏{‏فَقَدْ ضَلَّ‏}‏ عن الهدى ‏{‏ضلالا بَعِيداً‏}‏ عن الحق‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين ءامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ءامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ‏}‏ قال مقاتل‏:‏ يعني آمنوا بالتوراة وبموسى عليه السلام، ثم كفروا من بعد موسى، ثم آمنوا بعيسى عليه السلام والإنجيل، ثم كفروا من بعده ‏{‏ثُمَّ ازدادوا كُفْراً‏}‏ بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن‏.‏ ويقال‏:‏ إن الذين آمنوا بموسى ثم كفروا بعيسى، ثم آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم من قبل أن يبعث، ثم كفروا به بعدما بعث، ثم ازدادوا كفراً يعني ثبتوا على كفرهم‏.‏ وقال في رواية الكلبي‏:‏ آمنوا بموسى عليه السلام ثم كفروا به بعده، ثم آمنوا بعزير، ثم كفروا بعيسى، ثم ازدادوا كفراً يعني بمحمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقال في رواية الضحاك‏:‏ نزلت في شأن أبي عامر الراهب، وهو الذي بنى مسجد الضرار، آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم ثم كفر، ثم آمن ثم كفر ومات على كفره‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ يجوز أن يكون محارباً آمن ثم كفر، ثم آمن ثم كفر، ويجوز أن يكون منافقاً أظهر الإيمان وأبطن الكفر، ثم آمن ثم كفر، ثم ازداد كفراً بإقامته على النفاق‏.‏ فإن قيل‏:‏ إن الله تعالى لا يغفر كفراً مرة واحدة فأيش الفائدة في قوله ‏{‏إِنَّ الذين ءامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ءامَنُواْ‏}‏‏؟‏ قيل له‏:‏ لأن الكافر إذا أسلم فقد غفر له ما قد سلف من ذنبه، فإذا كفر بعد إيمانه لم يغفر الله له الكفر الأول، فهو مطالب بجميع ما فعل في كفره الأول، فذلك قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏لَّمْ يَكُنْ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ‏}‏ يعني إذا ماتوا على كفرهم ‏{‏وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً‏}‏ أي يوفقهم طريقاً‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏138- 140‏]‏

‏{‏بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ‏(‏138‏)‏ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا ‏(‏139‏)‏ وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا ‏(‏140‏)‏‏}‏

‏{‏بَشّرِ المنافقين‏}‏ وذلك أنه لما نزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صراطا مُّسْتَقِيماً‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 2‏]‏ فقال المؤمنون هذا لك فما لنا‏؟‏ فنزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَبَشِّرِ المؤمنين بِأَنَّ لَهُمْ مِّنَ الله فَضْلاً كِبِيراً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 47‏]‏ فقال المنافقون‏:‏ فما لنا‏؟‏ فنزل قوله تعالى ‏{‏بَشّرِ المنافقين‏}‏ ‏{‏بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً‏}‏ في الآخرة‏.‏ ثم نعت المنافقين فقال‏:‏ ‏{‏الذين يَتَّخِذُونَ الكافرين‏}‏ يعني اليهود ‏{‏أَوْلِيَاء‏}‏ في العون والنصرة ‏{‏مِن دُونِ المؤمنين‏}‏ ثم عيّرهم بذلك فقال ‏{‏أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ العزة‏}‏ يعني يطلبون عندهم المنعة والظفر على محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، العزة في اللغة المنفعة والغلبة كما يقال‏:‏ من عزَّ بزَّ، أي من غلب سلب‏.‏ ويقال‏:‏ عز الشيء إذا اشتد وجوده، ثم ذكر أنه لا نصرة لهم من الكفار، والنصرة من الله تعالى، فقال‏:‏ ‏{‏فَإِنَّ العزة للَّهِ جَمِيعاً‏}‏ يعني الظفر والنصر كله من الله تعالى، وهذا كما قال في آية أخرى ‏{‏يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى المدينة لَيُخْرِجَنَّ الاعز مِنْهَا الاذل وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ولكن المنافقين لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ 8‏]‏‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِى الكتاب‏}‏ وذلك أن المشركين بمكة كانوا يستهزئون بالقرآن، فنهى الله تعالى المسلمين عن القعود معهم، وهو قوله ‏{‏وَإِذَا رَأَيْتَ الذين يَخُوضُونَ فى ءاياتنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حتى يَخُوضُواْ فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشيطان فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذكرى مَعَ القوم الظالمين‏}‏ إلى قوله ‏{‏وَإِذَا رَأَيْتَ الذين يَخُوضُونَ فى ءاياتنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حتى يَخُوضُواْ فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشيطان فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذكرى مَعَ القوم الظالمين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 68‏]‏ فامتنع المسلمون عن القعود معهم، فلما قدموا المدينة كانوا يجلسون مع اليهود والمنافقين، وكان اليهود يستهزئون بالقرآن، فنزلت هذه الآية ‏{‏فَقَدْ * نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِى الكتاب‏}‏ ‏{‏وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِى الكتاب أَنْ إِذَا‏}‏ أي يجحد بها ‏{‏وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حتى يَخُوضُواْ فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِ‏}‏ أي حتى يأخذوا في كلام أحسن‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّكُمْ إِذاً مّثْلُهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ لو جلستم معهم كنتم معهم في الوزر، وفي هذه الآية دليل أن من جلس في مجلس المعصية ولم ينكر عليهم يكون معهم في الوزر سواء، وينبغي أن ينكر عليهم إذا تكلموا بالمعصية أو عملوا بها، فإن لم يقدر بأن ينكر عليهم ينبغي أن يقوم عنهم حتى لا يكون من أهل هذه الآية‏.‏ وروى جويبر عن الضحاك أنه قال‏:‏ دخل في هذه الآية كل محدث في الدين، وكل مبتدع إلى يوم القيامة‏.‏ قرأ عاصم ‏{‏وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ‏}‏ بنصب النون والزاي، وقرأ الباقون بضم النون وكسر الزاي على فعل ما لم يسم فاعله‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله جَامِعُ المنافقين والكافرين فِى جَهَنَّمَ جَمِيعاً‏}‏ يعني إذا ماتوا على كفرهم ونفاقهم، فبدأ بالمنافقين لأنهم شر من الكفار، وجعل مأواهم جميعاً النار‏.‏ وقال في رواية الكلبي‏:‏ قوله تعالى ‏{‏فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حتى يَخُوضُواْ فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِ‏}‏ نسخ بقوله عز وجل ‏{‏وَمَا عَلَى الذين يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَئ ولكن ذكرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 69‏]‏ وقال عامة المفسرين‏:‏ إنها محكمة وليست بمنسوخة‏.‏

ثم أخبر عن المنافقين، فقال تعالى‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏141- 144‏]‏

‏{‏الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا ‏(‏141‏)‏ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏142‏)‏ مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا ‏(‏143‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا ‏(‏144‏)‏‏}‏

‏{‏الذين يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ‏}‏ يعني ينتظرون بكم الدوائر، وهو تغيير الحال عليكم ‏{‏فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مّنَ الله‏}‏ يعني النصرة والغلبة على العدو ‏{‏قَالُواْ أَلَمْ نَكُنْ مَّعَكُمْ‏}‏ فأعطونا من الغنيمة ‏{‏وَإِن كَانَ للكافرين نَصِيبٌ‏}‏ يعني الظفر والغلبة على المؤمنين ‏{‏قَالُواْ‏}‏ للكفار ‏{‏أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ ألم نخبركم بصورة المسلمين ونطلعكم على سرهم، ونخبركم عن حالهم‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ ألم نغلب عليكم بالمودة لكم‏.‏ والاستحواذ هو الاستيلاء على الشيء، كقوله تعالى ‏{‏استحوذ عَلَيْهِمُ الشيطان فأنساهم ذِكْرَ الله أولئك حِزْبُ الشيطان أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشيطان هُمُ الخاسرون‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 19‏]‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وَنَمْنَعْكُمْ مّنَ المؤمنين‏}‏ يعني نجادل المؤمنين عنكم ونجنبهم عنكم‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فالله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ القيامة‏}‏ أي بين المؤمنين والمنافقين والكافرين ‏{‏وَلَن يَجْعَلَ الله للكافرين عَلَى المؤمنين سَبِيلاً‏}‏ أي الحجة، ويقال‏:‏ دولة دائمة أي لا تدوم دولتهم‏.‏ وروي عن علي كرم الله وجهه، أنه سئل عن قوله عز وجل إن الله تعالى يقول‏:‏ ‏{‏وَلَن يَجْعَلَ الله للكافرين عَلَى المؤمنين سَبِيلاً‏}‏ وهم يسلطون علينا ويغلبوننا، فقال‏:‏ لا يسلط الكافر على المؤمن في الآخرة يوم القيامة‏.‏

ثم بين حال المنافقين في الدنيا وخداعهم، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ المنافقين يخادعون الله‏}‏ أي يظنون أنهم يخادعون الله ‏{‏وَهُوَ خَادِعُهُمْ‏}‏ أي يجازيهم جزاء خداعهم، وهو أنهم يمشون مع المؤمنين على الصراط يوم القيامة، ثم يسلبهم النور فيبكون في ظلمة‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ المنافقين يخادعون الله‏}‏ يعني المنافقين ‏{‏قَامُواْ كسالى‏}‏ أي متثاقلين ‏{‏بِرَبّ الناس‏}‏ أي لا يرونها حقاً، ويصلون مراءاة للناس وسمعة ‏{‏وَلاَ يَذْكُرُونَ الله إِلاَّ قَلِيلاً‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ لو كان ذلك القليل لله تعالى لكان كثيراً وتقبل منهم، ولكن لن يريدوا به وجه الله تعالى‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلك‏}‏ أي مترددين‏.‏ ويقال‏:‏ منفضحين بين ذلك ‏{‏لاَ إلى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء‏}‏ يعني ليسوا مع المؤمنين في التصديق، ولا مع اليهود في الظاهر ‏{‏وَمَن يُضْلِلِ الله‏}‏ أي من يخذله الله عن الهدى ‏{‏فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً‏}‏ أي مخرجاً‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّ الذين كَفَرُواْ‏}‏ أي صدقوا‏.‏ قال مقاتل‏:‏ الذين آمنوا بزعمهم وهم المنافقون ‏{‏لاَ تَتَّخِذُواْ الكافرين أَوْلِيَاء مِن دُونِ المؤمنين‏}‏ ويقال‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّ الذين كَفَرُواْ‏}‏ في الظاهر وأسروا النفاق‏.‏ ويقال‏:‏ يعني المؤمنين المخلصين، كانت بينهم وبين اليهود صداقة، وكانوا يأتونهم فنهاههم الله تعالى عن ذلك‏.‏ فقال‏:‏ ‏{‏لاَ تَتَّخِذُواْ الكافرين أَوْلِيَاء مِن دُونِ المؤمنين‏}‏‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ للَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً‏}‏ يعني حجة مبينة في الآخرة‏.‏

ثم بيّن مأوى المنافقين في الآخرة فقال تعالى‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏145- 147‏]‏

‏{‏إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا ‏(‏145‏)‏ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏146‏)‏ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا ‏(‏147‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ المنافقين فِى الدرك الاسفل مِنَ النار‏}‏ المنافق في اللغة اشتقاقه من نافقاء اليربوع، ويقال‏:‏ لليربوع جحران أحدهما نافقاء، والآخر قاصعاء، فيظهر نفسه في أحدهما ويخرج من الآخر، ولهذا يسمى المنافق منافقاً لأنه يظهر من نفسه أنه مسلم، ويخرج عن الإسلام إلى الكفر‏.‏ قرأ أهل الكوفة حمزة والكسائي وعاصم الدرك بجزم الراء، وقرأ الباقون بالنصب وهما لغتان‏:‏ الدرك والدرك، وجماعتهما أدراك وهي المنازل بعضها أسفل من بعض، فأعد للمنافقين الدرك الأسفل من النار وهي الهاوية‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً‏}‏ أي مانعاً يمنعهم من العذاب‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِلاَّ الذين تَابُواْ‏}‏ من النفاق ‏{‏وَأَصْلَحُواْ‏}‏ أعمالهم ‏{‏واعتصموا بالله‏}‏ أي تمسكوا بدين الله وبتوحيده ‏{‏وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ للَّهِ‏}‏ أي بتوحيدهم لله بالإخلاص، فإن فعلوا ذلك ‏{‏فَأُوْلَئِكَ مَعَ المؤمنين‏}‏ أي المصدقين على دينهم لهم، ما للمسلمين وعليهم ما عليهم‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وَسَوْفَ يُؤْتِ الله المؤمنين‏}‏ أي يعطي الله المؤمنين ‏{‏أَجْراً عَظِيماً‏}‏ يعني ثواباً عظيماً في الآخرة‏.‏ وفي هذه الآية دليل أن المنافقين هم شر خلق الله، لأنه أوعدهم الدرك الأسفل من النار‏.‏ ثم استثنى لهم أربعة أشياء التوبة والإخلاص والإصلاح والاعتصام‏.‏ ثم قال بعد هذا كله‏:‏ ‏{‏فَأُوْلَئِكَ مَعَ المؤمنين‏}‏ ولم يقل هم المؤمنون‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وَسَوْفَ يُؤْتِ الله المؤمنين‏}‏ ولم يقل‏:‏ سوف يؤتيهم الله بغضاً لهم وإعراضاً عنهم، والمنافقون هم الزنادقة والقرامطة الذين هم بين المؤمنين، يظهرون من أنفسهم الإسلام وإذا اجتمعوا فيما بينهم يسخرون بالإسلام وأهله، فهم من أهل هذه الآية ومأواهم الهاوية‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَّا يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُمْ‏}‏ أي ما يصنع الله بعذابكم ‏{‏إِن شَكَرْتُمْ‏}‏ يعني إن آمنتم بالله تعالى ووحدتموه، ويقال‏:‏ معناه ما حاجة الله إلى تعذيبكم لو كنتم موحدين شاكرين له ‏{‏وَءامَنتُمْ‏}‏ به وصدقتم رسله‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَانَ الله شاكرا عَلِيماً‏}‏ أي شاكراً للقليل من أعمالكم، عليماً بأعمالكم وثوابكم‏.‏ ويقال‏:‏ شاكراً يقبل اليسير ويعطي الجزيل، عليماً بما في صدوركم‏.‏ ويقال‏:‏ بمن شكر وآمن فلا يعذب شاكراً ولا مؤمناً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏148- 152‏]‏

‏{‏لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا ‏(‏148‏)‏ إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا ‏(‏149‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا ‏(‏150‏)‏ أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا ‏(‏151‏)‏ وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏152‏)‏‏}‏

‏{‏لاَّ يُحِبُّ الله الجهر بالسوء مِنَ القول‏}‏ أي لا يحب أن يذكر بالقول القبيح لأحد من الناس ‏{‏إَلاَّ مَن ظَلَمَ‏}‏ فيقتص من القول بمثل ما ظلم، فلا جناح عليه‏.‏ نزلت الآية في شأن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، شتمه رجل فسكت أبو بكر مراراً، ثم ردّ عليه، ويقال‏:‏ ‏{‏إَلاَّ مَن ظَلَمَ‏}‏ فيدعو الله تعالى على ظالمه‏.‏ وقال الفراء‏:‏ ‏{‏إَلاَّ مَن ظَلَمَ‏}‏ يعني ولا من ظلم‏.‏ وقال السدي‏:‏ يقول من ظلم فانتصر بمثل ما ظلم فليس عليه جناح‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ ‏{‏لاَّ يُحِبُّ الله الجهر بالسوء‏}‏ أي لا يحب لكم أن تنزلوا برجل، فإذا ارتحلتم عنه تذمون طعامه إلا رجلاً أردتم النزول عليه عند حاجتكم فمنعكم‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ هو في الضيافة إذا دخل الرجل المسافر إلى القوم، يريد أن ينزل عليهم فلم يضيفوه، فقد رخص له أن يذكر كلاماً عنهم ويقول فيهم‏.‏ ويقال‏:‏ يعني يسبه مثل ما سبه ما لم يكن كلاماً فيه حد أو كلمة لا تصلح، ولو لم يقل كان أفضل‏.‏ وقرأ بعضهم‏:‏ ‏{‏إَلاَّ مَن ظَلَمَ‏}‏ متصل بما يفعل الله بعذابكم إلا من ظلم، يعني من إشراك بالله، وهو شاذ من القراءة ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَانَ الله سَمِيعاً عَلِيماً‏}‏ أي سميعاً بدعاء المظلوم، عليماً بعقوبة الظالم‏.‏

ثم أخبر عن التجاوز أنه خير من الانتصار، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِن تُبْدُواْ خَيْراً‏}‏ يعني إن تظهروا حسنة ‏{‏أَوْ تُخْفُوهْ‏}‏ يعني الحسنة ‏{‏أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوء‏}‏ يعني يتجاوز عن ظالمه ولا يجهر بالسوء عنه، فهو أفضل لأن الله تعالى قادر على عباده فيعفو عنهم، وذلك قوله ‏{‏فَإِنَّ الله كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً‏}‏ يعني أن الله أقدر على العقوبة لكم، فيعفو عنكم‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ بالله وَرُسُلِهِ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ نزلت الآية في أهل الكتاب، يؤمنون بموسى وعيسى ويكفرون بغيرهما، وهو قوله‏:‏ ‏{‏وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرّقُواْ بَيْنَ الله وَرُسُلِهِ‏}‏ يعني يريدون أن يتخذوا ديناً لم يأمر به الله ورسوله ‏{‏وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ‏}‏ بموسى وعزير والتوراة ‏{‏وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ‏}‏ بمحمد صلى الله عليه وسلم وبعيسى والإنجيل والقرآن ‏{‏وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذلك سَبِيلاً‏}‏ يعني بين اليهودية والإسلام‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ هُمُ الكافرون حَقّاً‏}‏ حين كفروا ببعض الرسل ‏{‏وَأَعْتَدْنَا للكافرين عَذَاباً مُّهِيناً‏}‏ يهانون فيه‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين ءامَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ‏}‏ يعني أقروا بوحدانية الله تعالى وصدقوا بجميع الرسل ‏{‏وَلَمْ يُفَرّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ‏}‏ في الإيمان والتصديق، يعني لم يكفروا ولم يجحدوا بأحد من الأنبياء والرسل عليهم السلام، ويصدقون بجميع الكتب ‏{‏أولئك‏}‏ يعني أهل هذه الصفة ‏{‏سَوْف نؤتّيهِمْ أُجُورَهُمْ‏}‏ أي سنعطيهم ثوابهم في الجنة ‏{‏وَكَانَ الله غَفُوراً‏}‏ لذنوبهم ‏{‏رَّحِيماً‏}‏ بهم لما كان منهم في الشرك‏.‏ قرأ عاصم في رواية حفص‏:‏ ‏{‏يُؤْتِيهِمْ‏}‏ بالياء؛ وقرأ الباقون ‏{‏نؤتيهم‏}‏ بالنون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏153- 158‏]‏

‏{‏يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآَتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا ‏(‏153‏)‏ وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ‏(‏154‏)‏ فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏155‏)‏ وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا ‏(‏156‏)‏ وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا ‏(‏157‏)‏ بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ‏(‏158‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكتاب أَن تُنَزّلَ عَلَيْهِمْ كتابا مّنَ السماء‏}‏ يعني جملة واحدة كما جاء به موسى عليه السلام‏.‏ ويقال‏:‏ إن كعب بن الأشرف وفنحاص بن عازوراء وأصحابهما قالوا‏:‏ لن نؤمن لك حتى تنزل علينا كتاباً تحمله الملائكة إلينا فتقرؤه‏.‏ قال الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏فَقَدْ سَأَلُواْ موسى أَكْبَرَ مِن ذلك‏}‏ يعني إن هؤلاء من أصل أولئك القوم الذين ‏{‏فَقَالُواْ‏}‏ لموسى عليه السلام ‏{‏أَرِنَا الله جَهْرَةً‏}‏ يعني عياناً، وهم القوم الذين ساروا مع موسى عليه السلام إلى طور سيناء ‏{‏فَأَخَذَتْهُمُ الصاعقة‏}‏ أي أحرقتهم النار ‏{‏بِظُلْمِهِمْ‏}‏ أي بقولهم وسؤالهم ‏{‏ثُمَّ اتخذوا العجل‏}‏ أي ومع ذلك، قد عبدوا العجل وهم قوم موسى في حال غيبته ‏{‏مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ البينات‏}‏ أي جاءهم موسى بالآيات والعلامات ‏{‏فَعَفَوْنَا عَن ذلك‏}‏ كله ولم نستأصلهم ‏{‏يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكتاب أَن‏}‏ أي حجة بينة، وهي اليد والعصا ‏{‏وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ‏}‏ يقول‏:‏ قلعنا فوقهم ‏{‏الطور بميثاقهم‏}‏ يعني بإقرارهم بما في التوراة حين أبوا أن يتقبلوا الشرائع ‏{‏وَقُلْنَا لَهُمُ ادخلوا الباب سُجَّداً‏}‏ يعني باب أريحة منحنية أصلابهم ‏{‏وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ فِى السبت‏}‏ يقول‏:‏ لا تستحلوا أخذ السمك في يوم السبت‏.‏ قرأ نافع في رواية ورش ‏{‏لاَ تَعْدُواْ‏}‏ بالتشديد، لأن أصله لا تعتدوا، فأدغم التاء في الدال وأقيم التشديد مقامه‏.‏ وقرأ الباقون ‏{‏لاَ تَعْدُواْ‏}‏ بالتخفيف من عدا يعدو عدواناً‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ ميثاقا غَلِيظاً‏}‏ يعني إقراراً وثيقاً شديداً في التوراة، يعني تركوا هذه الأشياء كلها ونقضوا الميثاق‏.‏ ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏فَبِمَا نَقْضِهِم ميثاقهم‏}‏ ولم يذكر في هذه الآية جوابهم، والجواب فيه مضمر فكأنه قال‏:‏ وأخذنا منهم ميثاقاً غليظاً، فبنقضهم الميثاق لعنهم الله تعالى وخذلهم كقوله ‏{‏فَبِمَا نَقْضِهِمْ ميثاقهم وَكُفْرِهِم بأايات الله وَقَتْلِهِمُ الانبيآء بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 155‏]‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وَكُفْرِهِم بئايات الله‏}‏ يعني بكفرهم بآيات الله لعنهم الله وخذلهم‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَتْلِهِمُ الانبياء بِغَيْرِ حَقّ‏}‏ يعني‏:‏ وبقتلهم الأنبياء بغير جرم ‏{‏وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ‏}‏ يعني‏:‏ ذا غلاف ولا نفقه حديثك، وقرأ بعضهم‏:‏ غلف بضم اللام وجماعة الغلاف يعني أن قلوبنا أوعية لكل علم ولا نفقه حديثك‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا‏}‏ يعني ختم الله على قلوبهم ‏{‏بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً‏}‏ أي لا يؤمنون إلا قليل منهم ويقال لا يؤمنون إلا بالقليل لأنهم آمنوا ببعض وكفروا ببعض‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ يعني ما أقل ما يؤمنون، يقول‏:‏ بأنهم لا يؤمنون البتة‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ على مَرْيَمَ بهتانا عَظِيماً‏}‏ وذلك أن مريم كانت متعبدة لله تعالى ناسكة، اصطفاها الله تعالى بولد بغير أب، فعيرها اليهود واتهموها وقذفوها بيوسف بن ماثان، وكان يوسف خادم بيت المقدس ويقال‏:‏ كان ابن عمها، فأنزل الله تعالى إكذاباً لقولهم وبيّن بهتانهم فقال‏:‏ ‏{‏وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ على مَرْيَمَ بهتانا عَظِيماً‏}‏ يعني لعنهم الله وخذلهم بذلك ‏{‏وَقَوْلِهِمْ‏}‏ أي وبقولهم ‏{‏إِنَّا قَتَلْنَا المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولَ الله‏}‏ هذا قول الله لا قول اليهود وقول اليهود إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم‏.‏ ثم قال الله تعالى ‏{‏رَسُولِ الله‏}‏ يعني الذي هو رسول الله؛ وذلك أن اليهود لما اجتمعوا على قتله هرب منهم ودخل في بيت، فأمر ملك اليهود رجلاً يدخل البيت يقال له يهوذا ويقال ططيانوس، فجاء جبريل عليه السلام ورفع عيسى عليه السلام إلى السماء، فلما دخل الرجل إلى البيت لم يجده، فألقى الله شبه عيسى عليه، فلما خرج ظنوا أنه عيسى فقتلوه وصلبوه‏.‏ ثم قالوا‏:‏ إن كان هذا عيسى فأين صاحبنا‏؟‏ وإن كان هذا صاحبنا فأين عيسى‏؟‏ فاختلفوا فيما بينهم، فأنزل الله تعالى إكذاباً لقولهم فقال‏:‏ ‏{‏وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ ولكن شُبّهَ لَهُمْ‏}‏ يعني ألقي شبه عيسى على غيره فقتلوه‏.‏ ثم قال ‏{‏وَإِنَّ الذين اختلفوا فِيهِ لَفِى شَكّ مّنْهُ‏}‏ أي من قتله ‏{‏مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ‏}‏ يعني لم يكن عندهم علم يقين أنه قتل أو لم يقتل ‏{‏إِلاَّ اتباع الظن‏}‏ أي قالوا قولاً بالظن ‏{‏وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً‏}‏ أي لم يستيقنوا بقتله، ويقال‏:‏ يقيناً ما قتلوه ‏{‏بَل رَّفَعَهُ الله إِلَيْهِ‏}‏ وقال مقاتل‏:‏ بل رفعه الله إلى السماء في شهر رمضان ليلة القدر‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ رفعه في يوم عاشوراء بين صلاتي المغرب والعشاء‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَانَ الله عَزِيزاً‏}‏ أي منيعاً حين منع عيسى من القتل ‏{‏حَكِيماً‏}‏ حين حكم رفعه إلى السماء‏.‏

وقوله عز وجل‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏159- 161‏]‏

‏{‏وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا ‏(‏159‏)‏ فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا ‏(‏160‏)‏ وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ‏(‏161‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِن مّنْ أَهْلِ الكتاب‏}‏ يقول‏:‏ وما من أهل الكتاب ‏{‏إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ‏}‏ يعني بعيسى عليه السلام ‏{‏قَبْلَ مَوْتِهِ‏}‏ وذلك أن اليهودي إذا حضرته الوفاة وعاين أمر الآخرة ضربته الملائكة، وقالت له‏:‏ يا عدو الله أتاك عزير فكذبته، ويقال للنصراني‏:‏ يا عدو الله أتاك عبد الله ورسوله، وهو عيسى، فزعمت أنه ابن الله، فيؤمن عند ذلك ويقر أنه عبد الله ورسوله، ولا ينفعه إيمانه في ذلك الوقت، ويكون إيمانهم عليهم شهيداً يوم القيامة‏.‏ وروي عن مجاهد أنه قال‏:‏ ما من أحد من أهل الكتاب إلا ويؤمن بعيسى عليه السلام قبل موته، فقيل له‏:‏ وإن غرق أو احترق أو أكله السبع يؤمن بعيسى عليه السلام‏؟‏ فقال‏:‏ نعم‏.‏ وروي أن الحجاج بن يوسف سأل شهر بن حوشب عن هذه الآية فقال إني لأوتى بالأسير من اليهود والنصارى، فآمر بضرب عنقه، وأنظر إليه في ذلك الوقت فلا أرى منه الإيمان، فقال له شهر بن حوشب‏:‏ إنه حين يعاين أمر الآخرة يقر بأن عيسى عبد الله ورسوله فيؤمن به ولا ينفعه‏.‏ فقال له الحجاج‏:‏ من أين أخذت هذا‏؟‏ قال‏:‏ أخذته من محمد بن الحنفية‏.‏ فقال له الحجاج‏:‏ لقد أخذت من عين صافية‏.‏ وروي عن سعيد بن جبير أنه قال‏:‏ ‏{‏قَبْلَ مَوْتِهِ‏}‏ يعني قبل موت عيسى عليه السلام هكذا قال الحسن‏.‏

قال الفقيه‏:‏ حدّثنا عمر بن محمد، قال‏:‏ حدّثنا أبو بكر الواسطي، قال‏:‏ حدّثنا إبراهيم بن يوسف، قال‏:‏ حدّثنا يزيد بن زريع، عن رجل، عن الحسن في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِن مّنْ أَهْلِ الكتاب إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ‏}‏ قال‏:‏ قبل موت عيسى، والله إنه لحي عند الله الآن، ولكن إذا نزل آمنوا به أجمعون‏.‏ وروي عن ابن عباس أنه قال‏:‏ يمكث عيسى عليه السلام في الأرض أربعين سنة نبياً إماماً مهدياً، ثم يموت وتصلي عليه هذه الأمة‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ يهبط عيسى عليه السلام من السماء إلى الأرض بعد خروج الدجال، فيكون هبوطه على صخرة بيت المقدس، ثم يقتل الدجال، ويكسر الصليب، ويهدم البيع والكنائس، ولا يبقى على وجه الأرض يهودي ولا نصراني إلا آمن بالمسيح ودخل في الإسلام‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ القيامة يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً‏}‏ يعني يكون عليهم عيسى عليه السلام شهيداً، بأنه قد بلغهم الرسالة‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَبِظُلْمٍ مّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طيبات أُحِلَّتْ لَهُمْ‏}‏ يعني بشركهم حرمنا عليهم أشياء كانت حلالاً لهم، وهو كل ذي ظفر وشحوم البقر والغنم أحلت لهم ‏{‏وَبِصَدّهِمْ عَن سَبِيلِ الله كَثِيراً‏}‏ أي بصرفهم كثيراً من الناس عن دين الله على وجه التقديم ‏{‏وَأَخْذِهِمُ الربا‏}‏ أي حرم عليهم الحلال بكفرهم، وبصرف الناس عن دين الله، وبأخذهم الربا ‏{‏وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ‏}‏ أي يعني عن أخذ الربا في التوراة ‏{‏وَأَكْلِهِمْ أموال الناس بالباطل‏}‏ وهو أخذ الرشوة في الحكم ‏{‏وَأَعْتَدْنَا للكافرين مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً‏}‏ أي هيأنا لهم عذاباً وجيعاً دائماً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏162- 162‏]‏

‏{‏لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏162‏)‏‏}‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لكن الراسخون فِى العلم مِنْهُمْ‏}‏ يعني المبالغون في العلم الذين أدركوا علم الحقيقة، وهم مؤمنو أهل الكتاب، وذلك أن اليهود أنكروا وقالوا‏:‏ هذه الأشياء كانت حراماً في الأصل وأنت تحلها، ولم تكن حرمت بظلمنا، فنزل ‏{‏لكن الراسخون فِى العلم مِنْهُمْ‏}‏ يصدقون بما أنزل إليك أنه الحق، ويقال‏:‏ إن مؤمني أهل الكتاب يعلمون أن الذي أنزل إليك من القرآن هو الحق، وأنك نبي مبعوث وهو مكتوب عندهم‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏والمؤمنون‏}‏ يعني أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ‏{‏يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ‏}‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏والمؤمنون بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ‏}‏ يعني يصدقون بالقرآن ‏{‏وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ‏}‏ ويصدقون بما أنزل من قبلك من كتب الله‏.‏

ثم وصفهم فقال‏:‏ ‏{‏والمقيمين الصلاة‏}‏ قال بعض الجهال‏:‏ هذا غلط الكاتب حيث كتب مصحف الإمام، كان ينبغي أن يكتب والمقيمون فأوهم وكتب والمقيمين‏.‏ واحتج بما روي عن عائشة أنها قالت‏:‏ ثلاثة أحرف في المصحف غلط من الكاتب‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والمقيمين الصلاة‏}‏ وقوله ‏{‏والصابئون والنصارى‏}‏ وقوله ‏{‏إِنْ هاذان لساحران‏}‏ وروي عن عثمان أنه نظر في المصحف فقال‏:‏ أرى فيه لحناً وستقيمه العرب بألسنتها، ولكن هذا بعيد عند أهل العلم والخبر، لم يثبت عن عثمان ولا عن عائشة رضي الله عنهما، لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا حماة الدين والقدوة في الشرائع والأحكام، فلا يظن بهم أنهم تركوا في كتاب الله تصحيفاً يصلحه غيرهم، وهم أخذوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ والمعنى في قوله ‏{‏والمقيمين الصلاة‏}‏ قال بعضهم‏:‏ يؤمنون بما أنزل إليك وبالمقيمين الصلاة، يعني بالنبيين المقيمين الصلاة‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ لكن الراسخون في العلم منهم، ومن المقيمين الصلاة يؤمنون بما أنزل إليك‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏والمؤتون الزكواة‏}‏ يعني الذين يعطون الزكاة المفروضة ‏{‏والمؤمنون بالله واليوم الاخر‏}‏ يعني المقرون بوحدانية الله تعالى وبالبعث بعد الموت‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏أولئك‏}‏ يعني أهل هذه الصفة ‏{‏سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً‏}‏ أي يعطيهم الله في الآخرة ثواباً عظيماً وهو الجنة‏.‏ قرأ حمزة ‏{‏سيؤتيهم‏}‏ بالياء وقرأ الباقون بالنون‏.‏

قوله تعالى‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏163- 164‏]‏

‏{‏إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآَتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا ‏(‏163‏)‏ وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا ‏(‏164‏)‏‏}‏

‏{‏إنا أوحينا إليك‏}‏ يعني أرسلنا إليك جبريل ‏{‏إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إلى نُوحٍ‏}‏ يعني كما أرسلنا إلى نوح، ويقال‏:‏ أوحينا إليك بأن تثبت على التوحيد وتأمر الناس بالتوحيد، كما أوحينا إلى نوح بأن يثبت على التوحيد، ويدعو الناس إلى التوحيد ‏{‏والنبيين مِن بَعْدِهِ‏}‏ أي أوحينا إليهم بذلك ‏{‏وَأَوْحَيْنَا إلى إبراهيم وإسماعيل *** وإسحاق‏}‏ وهما ابنا إبراهيم عليهم السلام ‏{‏وَيَعْقُوبَ‏}‏ وهو ابن إسحاق ‏{‏وَالاسْبَاطَ‏}‏ وهم أولاد يعقوب عليه السلام، كانوا اثني عشر سبطاً، أوحينا إلى أنبيائهم بأن يثبتوا على التوحيد، ويدعوا الناس إلى ذلك، ‏{‏و‏}‏ أوحينا إلى ‏{‏عيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً‏}‏ قرأ حمزة‏:‏ ‏{‏زَبُوراً‏}‏ بضم الزاي‏.‏ وقرأ الباقون بالنصب في جميع القرآن، ومعناهما واحد، وهو عبارة عن الكتاب‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وَرُسُلاً قَدْ قصصناهم عَلَيْكَ مِن قَبْلُ‏}‏ يعني قد سميناهم لك من قبل، يعني بمكة ‏{‏وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ‏}‏ يعني لم نسمهم لك، وقد أرسلناك كما أرسلنا هؤلاء‏.‏ وروي عن كعب الأحبار أنه قال‏:‏ كان الأنبياء ألفي ألف ومائتي ألف‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ كان الأنبياء ألف ألف، وأربعمائة ألف، وأربعة وعشرين ألفاً‏.‏ وروي عن أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «بُعِثْتُ عَلَى أَثَرِ ثَمَانِيَةِ آلافٍ مِنَ الأَنْبِيَاءِ مِنْهُمْ أَرَبَعَةُ آلافٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ» قال الفقيه أبو الليث‏:‏ حدّثنا الفقيه أبو جعفر، قال‏:‏ حدّثنا أحمد بن محمد القاضي، قال‏:‏ حدّثنا إبراهيم بن حشيش البصري، عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن الحارث الأعور، عن أبي ذر الغفاري قال‏:‏ قلت يا نبي الله كم كانت الأنبياء‏؟‏ وكم كان المرسلون فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «كَانَتِ الأنْبِياءُ مِائَةَ ألْفِ نَبِيٍّ وَأَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ أَلْفَ نَبِيٍّ، وَكَانَ المُرْسَلُونَ ثَلَاثَمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ» ثم قال‏:‏ ‏{‏وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيماً‏}‏ قال بعضهم‏:‏ معناه أنه قد أوحى إليه، وإنما سماه كلاماً على وجه المجاز كما قال في آية أخرى ‏{‏أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سلطانا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُواْ بِهِ يُشْرِكُونَ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 35‏]‏ أي يستدلون بذلك، والعرب تقول‏:‏ قال الحائط كذا‏.‏ وقال عامة المفسرين وأهل العلم‏:‏ إن هذا كلام حقيقة لا كلام مجاز، لأنه قد أكده بالمصدر حيث قال‏:‏ ‏{‏وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيماً‏}‏ والمجاز لا يؤكد لأنه لا يقال‏:‏ قال الحائط قولاً، فلما أكده بالمصدر نفى عنه المجاز، وقال في موضع آخر‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَئ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 40‏]‏ وقد أكده بالتكرار ونفى عنه المجاز‏.‏ وقال في موضع آخر ‏{‏وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ الله إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِىَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَآءُ إِنَّهُ عَلِىٌّ حَكِيمٌ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 51‏]‏ يعني الأنبياء الذين لم يكونوا مرسلين، فأراهم في المنام أو من وراء حجاب بكلام مثل ما كلم الله موسى، أو يرسل رسولاً وهو رسالة جبريل إلى المسلمين‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏165- 169‏]‏

‏{‏رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ‏(‏165‏)‏ لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ‏(‏166‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا ‏(‏167‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا ‏(‏168‏)‏ إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ‏(‏169‏)‏‏}‏

‏{‏رُّسُلاً مُّبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ‏}‏ أي أرسلنا رسلاً مبشرين بالجنة ومنذرين بالنار ‏{‏لِئَلاَّ يَكُونَ‏}‏ يقول‏:‏ لكيلا يكون ‏{‏لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرسل‏}‏ يعني‏:‏ بعد إرسال الرسل، كي لا يقولوا يوم القيامة إنك لم ترسل إلينا رسولاً‏.‏ ولو أن الله تعالى لم يرسل رسولاً كان ذلك عدلاً منه إذ أعطى كل واحد من خلقه من العقل ما يعرفه، ولكن أرسل تفضلاً منه، ولكي يكون زيادة في الحجة عليهم‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَانَ الله عَزِيزاً حَكِيماً‏}‏‏.‏ ‏{‏عَزِيزاً‏}‏ بالنقمة لمن يجحده ‏{‏حَكِيماً‏}‏ حكم إرسال الرسل والأنبياء عليهم السلام‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لكن الله يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ وذلك أن رؤساء مكة أتوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا سألنا اليهود عن صفتك ونعتك، فزعموا أنهم لا يعرفونك في كتابهم، فأتِنا بمن يشهد لك بأنك نبي مبعوث فنزل‏:‏ ‏{‏لكن الله يَشْهَدُ‏}‏ يعني إن لم يشهد لك أحد منهم، فالله تعالى أعظم شهادة من خلقه، هو يشهد لك بأنك نبيّ ويظهر نبوتك‏.‏ قال القتبي‏:‏ هذا من الاختصار لأنه لما نزل ‏{‏إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إلى نُوحٍ والنبيين مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَآ إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق وَيَعْقُوبَ والاسباط وعيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وهارون وسليمان وَءَاتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 163‏]‏ قال المشركون‏:‏ لا نشهد لك بهذا فمن يشهد لك‏؟‏ فنزلت هذه الآية حكاية قولهم‏.‏ فقال تعالى ‏{‏لكن الله يَشْهَدُ‏}‏ ‏{‏بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ‏}‏ لأن كلمة لكن إنما تجيء بعد نفي شيء، فوجب ذلك الشيء بها‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ‏}‏ أي بأمره‏.‏ ويقال‏:‏ أنزل القرآن الذي فيه علمه‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏والملئكة يَشْهَدُونَ‏}‏ أيضاً على شهادتك بالذي شهدت أنه الحق ‏{‏وكفى بالله شَهِيداً‏}‏ فلا أحد أفضل من الله تعالى، شهادة بأنه أنزل عليك القرآن‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله‏}‏ يعني صرفوا الناس عن دين الله ‏{‏قَدْ ضَلُّواْ ضلالا بَعِيداً‏}‏ عن الحق‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ‏}‏ أي جحدوا وأشركوا ‏{‏لَّمْ يَكُنْ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ‏}‏ أي ما داموا على كفرهم ‏{‏وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً‏}‏ يعني‏:‏ لا يوفقهم لطريق الإسلام ‏{‏إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ‏}‏ يعني‏:‏ يتركهم ويخذلهم في طريق الكفر عقوبة لكفرهم ولجحودهم وهو طريق جهنم‏.‏ ويقال‏:‏ إلا العمل الذي يجبرهم إلى جهنم‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ لا يهديهم طريقاً يوم القيامة، أي لا يرفع لهم إلا طريق جهنم‏.‏ وذلك أن أهل الإيمان يرفع لهم في الموقف طريق تأخذ بهم إلى الجنة، ويرفع لأهل الكفر طريق ينتهي بهم إلى النار‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏خالدين فِيهَا أَبَداً‏}‏ أي دائمين فيها ‏{‏وَكَانَ ذلك عَلَى الله يَسِيراً‏}‏ أي خلودهم وعذابهم في النار هيّن على الله تعالى‏.‏

قوله تعالى‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏170- 171‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآَمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ‏(‏170‏)‏ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ‏(‏171‏)‏‏}‏

‏{‏أَيُّهَا الناس‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يعني أهل مكة ‏{‏قَدْ جَاءكُمُ الرسول بالحق مِن رَّبّكُمْ‏}‏ أي بشهادة أن لا إله إلا الله، ويقال‏:‏ ببيان الحق‏.‏ ويقال‏:‏ للحق، يعني للعرض والحجة وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَدْ جَاءكُمُ‏}‏ على وجه المجاز، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كان فيهم، ولكن معناه أنه قد ظهر فيكم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال في آية أخرى ‏{‏لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 128‏]‏ أي ظهر فيكم ثم قال‏:‏ ‏{‏يأَيُّهَا الناس قَدْ‏}‏ أي صدقوا بوحدانية الله تعالى، والقرآن الذي جاءكم به محمد صلى الله عليه وسلم خيراً لكم من عبادة الأوثان، لأن عبادة الأوثان لا تغنيكم شيئاً‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن تَكْفُرُواْ‏}‏ أي إن تجحدوا بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم، فإن الله غنيٌّ عنكم ‏{‏فَإِنَّ للَّهَ مَا فِي السموات والارض‏}‏ كلهم عبيده وإماؤه ‏{‏وَكَانَ الله عَلِيماً‏}‏ بخلقه ‏{‏حَكِيماً‏}‏ في أمره‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏حَكِيماً يأَهْلَ الكتاب لاَ تَغْلُواْ فِى دِينِكُمْ‏}‏ قال الضحاك‏:‏ أي لا تكذبوا في دينكم‏.‏ وقال بعض أهل اللغة‏:‏ الغلو مجاوزة القدر في الظلم‏.‏ ويقال‏:‏ الغلو أن تجاوز ما حدَّ لك‏.‏ وقال القتبي‏:‏ يعني لا تفرطوا في دينكم، فإن دين الله بين المقصر والغالي‏.‏ وغلا في القول إذا تجاوز المقدار‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ وذلك أن اليعقوبية وهم صنف من النصارى قالوا‏:‏ عيسى هو الله‏.‏ وقالت النسطورية‏:‏ هو ابن الله‏.‏ وقالت المرقوسية ويقال لهم الملكانية‏:‏ هو ثالث ثلاثة، فنزل ‏{‏حَكِيماً يأَهْلَ الكتاب لاَ تَغْلُواْ فِى دِينِكُمْ‏}‏‏.‏ قال مقاتل‏:‏ الغلو في الدين أن يقول على الله غير الحق‏.‏ ويقال‏:‏ لا تتعمقوا في دينكم‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الحق‏}‏ يعني‏:‏ لا تصنعوا بالله بما لا يليق بصفاته، فإن الله تعالى واحد لا شريك له ولا ولد له‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولُ الله وَكَلِمَتُهُ ألقاها إلى مَرْيَمَ‏}‏ وهو قوله ‏{‏إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَئ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 40‏]‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وَرُوحٌ مّنْهُ‏}‏ قال ابن عباس في رواية الكلبي‏:‏ يعني أمر منه فأتاها جبريل، فنفخ في جيب درعها فدخلت تلك النفخة بطنها، ثم وصل إلى عيسى ابن مريم فتحرك في بطنها وأمه أمة الله تعالى ‏{‏مَّا كَانَ الله‏}‏ يعني‏:‏ صدقوا بوحدانية الله تعالى وبما جاءكم به الرسل من الله تعالى ‏{‏وَلاَ تَقُولُواْ ثلاثة‏}‏ يعني‏:‏ لا تقولوا إن الله ثالث ثلاثة ‏{‏انتهوا خَيْراً لَّكُمْ‏}‏ يقول‏:‏ توبوا إلى الله تعالى من مقالتكم، فالتوبة خيرٌ لكن من الإصرار على الكفر ‏{‏إِنَّمَا الله إله واحد‏}‏ ثم نزّه نفسه عما قال الكفار فقال‏:‏ ‏{‏سبحانه أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ‏}‏‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏لَّهُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الارض‏}‏ من الخلق ‏{‏وكفى بالله وَكِيلاً‏}‏ يعني كفيلاً ويقال شاهداً ولا شاهد أفضل منه‏.‏

قوله تعالى‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏172- 173‏]‏

‏{‏لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا ‏(‏172‏)‏ فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ‏(‏173‏)‏‏}‏

‏{‏لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله‏}‏ يعني‏:‏ لن يتعظم ولن يأنف ولن يتكبر‏.‏ ويقال‏:‏ لن يحتشم أن يكون عبداً لله‏.‏ ويقال‏:‏ إن وفد نجران أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وناظروه في أمر عيسى عليه السلام، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ كان عبد الله ورسوله، فقالوا‏:‏ لا تقل هكذا فإن عيسى يأنف عن هذا القول، فنزل تكذيباً لقولهم ‏{‏لَّن يَسْتَنكِفَ المسيح أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ‏}‏ يعني كان عيسى مقرّاً بالعبودية‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ الملئكة المقربون‏}‏ يعني حملة العرش لن يأنفوا عن الإقرار بالعبودية‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ الملائكة المقربون أقرب إليه، فلم يأنفوا عن عبادته فكيف يأنف عيسى عليه السلام وهو عبد من عباده‏؟‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن يَسْتَنْكِفْ‏}‏ أي يتعظم ‏{‏عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ‏}‏ والاستكبار هو الاستنكاف، يقال‏:‏ استنكف واستكبر يعني استكبر عن طاعته ‏{‏فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً‏}‏ يأمر بهم إلى النار‏.‏ ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏فَأَمَّا الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات‏}‏ أي الطاعات فيما بينهم وبين ربهم ‏{‏فَيُوَفّيهِمْ أُجُورَهُمْ‏}‏ أي يوفر لهم ثواب أعمالهم ‏{‏وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ‏}‏ أي من رزقه في الجنة ‏{‏وَأَمَّا الذين استنكفوا واستكبروا‏}‏ عن عبادة الله تعالى ‏{‏فَيُعَذّبُهُمْ عَذَاباً أَلُيماً‏}‏ أي وجيعاً دائماً ‏{‏وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مّن دُونِ الله‏}‏ يعني من عذاب الله ‏{‏وَلِيّاً‏}‏ يعينهم ‏{‏وَلاَ نَصِيراً‏}‏ مانعاً يمنعهم‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏174- 176‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا ‏(‏174‏)‏ فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ‏(‏175‏)‏ يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏176‏)‏‏}‏

‏{‏يَأَيُّهَا الناس قَدْ جَاءكُمْ بُرْهَانٌ مّن رَّبّكُمْ‏}‏ أي بياناً من ربكم وحجة من ربكم، وهو محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن ‏{‏وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً‏}‏ أي بياناً من العمى وبيان الحلال من الحرام، وهو القرآن‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَمَّا الذين ءامَنُواْ بالله‏}‏ أي صدقوا بوحدانية الله تعالى ‏{‏واعتصموا بِهِ‏}‏ أي تمسكوا بدينه ‏{‏فَسَيُدْخِلُهُمْ فِى رَحْمَةٍ مَّنْهُ‏}‏ يعني الجنة ‏{‏وَفَضَّلَ‏}‏ أي الثواب ‏{‏وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ‏}‏ أي يرشدهم إلى دينه، ويوفقهم لذلك‏.‏ وفي الآية تقديم وتأخير فكأنه يقول‏:‏ يهديهم في الدنيا ‏{‏صراطا مُّسْتَقِيماً‏}‏ أي ديناً لا عوج فيه، ويثيبهم على ذلك ويدخلهم في الآخرة في رحمة منه وفضل وهو الجنة والكرامة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَسْتَفْتُونَكَ‏}‏ يعني يسألونك في حكم الميراث ‏{‏قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِى الكلالة‏}‏ روي عن قتادة أنه قال‏:‏ الكلالة من لا ولد له ولا والد، وكذلك قال ابن عباس‏:‏ وروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال‏:‏ إني قد رأيت رأياً فإن يكن صواباً فمن الله، وإن يكن خطأ فمن نفسي ومن الشيطان‏:‏ الكلالة ما عدا الوالد والولد‏.‏ وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال‏:‏ ثلاث لا يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهن لنا كان أحب إليّ من الدنيا وما فيها‏:‏ الكلالة، والخلافة، وأبواب الربا‏.‏ وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الكلالة فقال‏:‏ «أَلَمْ تَرَ الآيةَ الَّتِي أُنْزِلَتْ فِي النِّسَاءِ ‏{‏قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِى الكلالة إِن امرؤ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ‏}‏» يعني هذا تفسير الكلالة‏.‏ وهذه الآية نزلت في شأن جابر بن عبد الله، سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ إن لي أختاً فما لي من ميراثها‏؟‏ فنزلت هذه الآية، فبيّن ميراث جابر أولاً ثم ميراث أخته، فصارت الآية عامة لجميع الناس‏.‏ قال‏:‏ ‏{‏إِن امرؤ هَلَكَ‏}‏ يعني إن مات رجل ‏{‏لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ‏}‏ من المال ‏{‏وَهُوَ يَرِثُهَا‏}‏ يعني إذا ماتت الأخت والأخ حيّ ورثها ‏{‏إِن لَّمْ يَكُنْ لَّهَا وَلَدٌ‏}‏ وقد ذكرت الآية حكم الأخ والأخت إذا لم يكن لهما ولد، ولم يبين أنه لو كان لأحدهما ولد فمات أحدهما فما حكمه‏؟‏ ولكن بيّن على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم أن للابنة النصف، وما بقي فللأخت وإن كانت الأخت هي التي ماتت وتركت ابنة وأخاً، فللابنة النصف وما بقي فللأخ‏.‏ وفي هذا إجماع وفي الأول اختلاف قال ابن عباس‏:‏ لا ترث الأخت مع الابنة شيئاً، وخالفه جميع الصحابة وقالوا كلهم‏:‏ الأخوات مع البنات عصبة‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِن كَانَتَا اثنتين فَلَهُمَا الثلثان مِمَّا تَرَكَ‏}‏ يعني‏:‏ إذا كان للميت أختان أو أكثر فلهما الثلثان إذا كانتا اثنتين، وإن كنَّ أكثر من ذلك فلهنَّ الثلثان أيضاً بالإجماع‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رّجَالاً وَنِسَاء‏}‏ يعني إخوة وأخوات ‏{‏فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظّ الانثيين‏}‏ يعني لكل أخٍ سهمان ولكل أخت سهم، هذا إذا كانت الإخوة والأخوات من الأب والأم أو من الأب خاصة، فأما إذا كانوا من قبل الأم فهم شركاء في الثلث، ليس لهم أكثر من ذلك كما ذكرنا في أول السورة، وهذا بالإجماع‏.‏ ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏يُبَيّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ‏}‏ أي يبين الله لكم قسمة المواريث لكي لا تضلوا ولا تخطئوا في قسمتها‏.‏ وقد يحذف لا فيراد به إثباته كقوله ‏{‏خَلَقَ السماوات بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وألقى فِى الارض رَوَاسِىَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مَآءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 10‏]‏ يعني أن لا تميد بكم، وقد يذكر لا ويراد حذفه كقوله ‏{‏قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 12‏]‏ يعني أن تسجد وكقوله ‏{‏لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ القيامة‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 1‏]‏ أقسم ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏والله بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ‏}‏ من قسمة المواريث وغيره، أي اتبعوا ما أنزل الله تعالى وبيّن لكم في كتابه، والله أعلم‏.‏ وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليماً‏.‏

سورة المائدة

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 3‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ ‏(‏1‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آَمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ‏(‏2‏)‏ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏3‏)‏‏}‏

‏{‏ياأيها الذين ءَامَنُواْ‏}‏ فهذا نداء المدح، والنداء في القرآن على سبع مراتب‏:‏ نداء المدح، مثل قوله ‏{‏مُّنتَظِرُونَ ياأيها النبى‏}‏ ‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّ الذين كَفَرُواْ‏}‏ ‏{‏لَّمَّا كَذَّبُواْ الرسل‏}‏‏.‏ ونداء الذم، مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏عَمُونَ وَقَالَ الذين كَفَرُواْ‏}‏ ‏{‏قُلْ ياأيها الذين هادوا إِن زَعمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَآءُ لِلَّهِ مِن دُونِ الناس فَتَمَنَّوُاْ الموت إِن كُنتُمْ صادقين‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏ 6‏]‏‏.‏ ونداء التنبيه، مثل قوله ‏{‏القرءان خَلَقَ الإنسان‏}‏‏.‏ ونداء الإضافة، مثل قوله ‏{‏فِى عِبَادِى‏}‏ ونداء النسبة، مثل قوله‏:‏ ‏{‏تَتَّقُونَ وَإِذْ أَخَذَ‏}‏ ‏{‏مَعِىَ بَنِى إسراءيل‏}‏‏.‏ ونداء الاسم‏:‏ مثل قوله ‏{‏ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ‏}‏ ‏{‏وَقَتَلَ دَاوُودُ‏}‏‏.‏ ونداء التعبير، مثل قوله‏:‏ ‏{‏مّنْ أَهْلِ الكتاب‏}‏ فهاهنا نداء المدح‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّ الذين كَفَرُواْ‏}‏ وهو من جوامع الكلم، لأنه قال ‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّ الذين كَفَرُواْ‏}‏ يعني صدقوا، ولم يقل بأي شيء صدقوا، معناه الذين صدقوا بوحدانية الله تعالى، وصدقوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن، وصدقوا بجميع الرسل، وبالبعث، والحساب، والجنة، والنار‏.‏ وقال عبد الله بن مسعود‏:‏ كل مؤدب يحب أن يؤتى أدبه وإن أدب الله القرآن، فإذا سمعت الله يقول‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّ الذين كَفَرُواْ‏}‏ فأرعها سمعك فإنه خير مأمور به أو شر منهي عنه، ويقال‏:‏ جميع ما في القرآن ‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّ الذين كَفَرُواْ‏}‏ نزل بالمدينة، وكل ما يقال في القرآن ‏{‏يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا الناس‏}‏ نزل أكثره بمكة، وقد قيل نزل بالمدينة أيضاً‏.‏ ويقال‏:‏ كل ما في القرآن ‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّ الذين كَفَرُواْ‏}‏ ذكر في مقابله في الإنجيل يا أيها المساكين‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏أَوْفُواْ بالعقود‏}‏ يعني أتموا الفرائض التي ذكر الله تعالى في القرآن، وعقد على عباده ما أحل لهم وحرم عليهم أن يوفوا بها‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ ‏{‏أَوْفُواْ بالعقود‏}‏ يعني بالعهود التي بينكم وبين المشركين‏.‏ ويقال‏:‏ جميع العقود التي بينه وبين الناس، والتي بينه وبين الله تعالى‏.‏ وهذا من جوامع الكلم، لأنه اجتمع فيه ثلاثة أنواع من العقود أحدها‏:‏ العقود التي عقد الله تعالى على عباده من الأوامر والنواهي‏.‏ والنوع الثاني‏:‏ العقود التي يعقدها الإنسان بينه وبين الله تعالى من النذور والأيمان، وغير ذلك‏.‏ والنوع الثالث‏:‏ العقود التي بينه وبين الناس، مثل البيوع والإجارات وغير ذلك‏.‏ فوجب الوفاء بهذه العقود كلها‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏أُحِلَّتْ لَكُمْ‏}‏ يعني رخصت لكم ‏{‏بَهِيمَةُ الانعام‏}‏ والأنعام تشتمل على الإبل والبقر والغنم والوحش، دليله على قوله تعالى ‏{‏وَمِنَ الأنعام حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله وَلاَ تَتَّبِعُواْ خطوات الشيطان إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 142‏]‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏ثمانية أزواج‏}‏ وأما البهيمة فهي كل حيّ لا يتميز، وإنما قيل لها بهيمة لأنها أبهمت من أن تميز‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ رخصت لكم الأنعام كلها إلا ما حرم عليكم في هذه السورة، وهي الميتة والدم ولحم الخنزير وغير ذلك، وذلك أنهم كانوا يحرمون السائبة والبحيرة، فأخبر الله تعالى أنهما حلالان ‏{‏إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ‏}‏ يعني إلا ما بين في هذه السورة‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏غَيْرَ مُحِلّى الصيد وَأَنتُمْ حُرُمٌ‏}‏ يعني‏:‏ أحلت لكم هذه الأشياء من غير أن تستحلوا الصيد وأنتم محرمون‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ‏}‏ يعني يحل ما يشاء ويحرم ما يشاء، لأنه أعرف بصلاح خلقه وما يصلحهم وما لا يصلحهم، وليس لأحد أن يدخل في حكمه‏.‏ وهذا كقوله ‏{‏قُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ لَهُ غَيْبُ السماوات والارض أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِىٍّ وَلاَ يُشْرِكُ فِى حُكْمِهِ أَحَدًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 26‏]‏ وقال ‏{‏لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْألُونَ‏}‏ «‏[‏سورة الأنبياء‏:‏ 23‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُرِيدُ يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ الله‏}‏ الشعائر ما جعل الله علامات الطاعات، واحدها شعيرة، ومعناه لا تستحلوا شيئاً من ترك المناسك كلها مما أمر الله تعالى من أمر الحج، وهو السعي بين الصفا والمروة، والخروج إلى عرفات، ورمي الجمار، والطواف، واستلام الحجر وغير ذلك‏.‏ وذلك أن الأنصار كانوا لا يسعون بين الصفا والمروة، وكان أهل مكة لا يخرجون إلى عرفات، وكان أهل اليمن يرجعون من عرفات، فأمر الله تعالى في هذه السورة بأن لا يتركوا شيئاً من أمور المناسك‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وَلاَ الشهر الحرام‏}‏ يعني لا تستحلوا القتل في الشهر الحرام ‏{‏وَلاَ الهدى وَلاَ القلائد‏}‏ يقول‏:‏ لا تتعرضوا له ولا تستحلوا‏.‏ وذلك أن أهل الجاهلية كانوا إذا خرجوا إلى مكة، وكانوا إذا قلدوا الهدي أمنوا بذلك، ومن يكن له هدي جعل في عنق راحلته قلادة، ومن لم يكن معه راحلة جعل في عنقه قلادة من شعر أو وبر فيأمن بذلك، فإذا رجع من مكة جعل شيئاً من لحاء شجر مكة في عنق راحلته، فيأمن بذلك ليعرف أنه كان حاجاً، فأمرهم الله تعالى بأن لا يستحلوا ذلك، يعني‏:‏ من فعل ذلك لا يتعرض له‏.‏

ثم قال تعالى ‏{‏وَلاَ الشهر‏}‏ يقول‏:‏ ولا تستحلوا قاصدين ‏{‏البيت الحرام‏}‏ نزلت في ‏"‏ شُرَيْح بن ضُبَيْعة بن شُرَحْبِيل اليماني ‏"‏ دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وكلمه، فلما خرج من عنده مَرَّ بسرح لأهل المدينة فساقها، وانتهى إلى اليمامة ثم خرج من هناك نحو مكة ومعه تجارة عظيمة، فهمَّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يخرجوا إليه ويغيروا على أمواله، فنزل ‏{‏وَلاَ الشهر الحرام وَلاَ‏}‏ ‏{‏يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّن رَّبّهِمْ‏}‏ يعني الربح في المال ‏{‏وَرِضْوَاناً‏}‏ يعني يطلبون بحجهم رضوان ربهم فلا يرضى عنهم حتى يؤمنوا‏.‏

ثم نسخ بقوله‏:‏ ‏{‏فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ واحصروهم واقعدوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصلاة وَءاتَوُاْ الزكواة فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 5‏]‏ ولم ينسخ قوله ‏{‏لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ الله‏}‏ ولكنه محكم، فوجب إتمام أمور المناسك، ولهذا قال أصحابنا‏:‏ إن الرجل إذا دخل في الحج ثم أفسده، فعليه أن يأتي بجميع أفعال الحج، ولا يجوز أن يترك، ثم عليه القضاء في السنة الثانية‏.‏ ونسخ قوله ‏{‏وَلاَ الشهر الحرام‏}‏ فيجوز القتال في الشهر الحرام بقوله ‏{‏إِنَّ عِدَّةَ الشهور عِندَ الله اثنا عَشَرَ شَهْراً فِي كتاب الله يَوْمَ خَلَقَ السماوات والارض مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلك الدين القيم فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ المشركين كَآفَّةً كَمَا يقاتلونكم كَآفَّةً واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 36‏]‏ وقوله تعالى ‏{‏وَلاَ الهدى وَلاَ القلائد‏}‏ فهو محكم أيضاً، ولم ينسخ فكل من قلد الهدي وتوجه إلى مكة ونوى الإحرام صار محرماً، ولا يجوز له أن يحل بدليل هذه الآية‏.‏ فهذه الأحكام معطوفة بعضها على بعض، بعضها منسوخة وبعضها محكمة، فإن قيل‏:‏ قد قال‏:‏ ‏{‏يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّن رَّبّهِمْ ورضوانا‏}‏ فأخبر أنهم يطلبون رضوان ربهم، ولم يذكر أن طلبهم كان باطلاً‏؟‏ قيل له‏:‏ لأنه لم يذكر في لفظ الآية أمر الكفار، وإنما بيّن النهي عن التعرض للذين يقصدون البيت، فإن كان الذي قصد كافراً فقد بيّن في آية أخرى أنه لم يقبل منه، وإن لم يذكر ها هنا وهو قوله ‏{‏اليوم أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ والمحصنات مِنَ المؤمنات والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ إِذَآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ متخذى أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بالإيمان فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِى الاخرة مِنَ الخاسرين‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 5‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏وَإِذَا حَلَلْتُمْ فاصطادوا‏}‏ يعني إذا حللتم من إحرامكم فاصطادوا إن شئتم، فهذه رخصة بلفظ الأمر كقوله ‏{‏فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِى الارض وابتغوا مِن فَضْلِ الله واذكروا الله كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏ 10‏]‏ وكقوله ‏{‏أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فالن باشروهن وابتغوا مَا كَتَبَ الله لَكُمْ وَكُلُواْ واشربوا حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الأبيض مِنَ الخيط الأسود مِنَ الفجر ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى اليل وَلاَ تباشروهن وَأَنتُمْ عاكفون فِي المساجد تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَقْرَبُوهَا كذلك يُبَيِّنُ الله آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ‏}‏ ‏[‏سورة البقرة‏:‏ 187‏]‏ الآية‏.‏ وقال الضحاك ‏{‏وَإِذَا حَلَلْتُمْ‏}‏ يعني إذا خرجتم من إحرامكم وخرجتم من حرم الله تعالى وأمنه فاصطادوا‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَانُ قَوْمٍ‏}‏ يقول‏:‏ ولا يحملنكم عداوة كفار مكة ‏{‏أَن صَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام‏}‏ يعني عام الحديبية ‏{‏أَن تَعْتَدُواْ‏}‏ على حجاج اليمامة من المشركين فتستحلوا منهم‏.‏

وفي الآية دليل أن المكافأة لا تجوز من غير جنس الذي فعل به، وتكون تلك المكافأة اعتداء لأن الله تعالى قال‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَانُ قَوْمٍ‏}‏ يعني بغض قوم وعداوتهم ‏{‏أَن تَعْتَدُواْ‏}‏ يعني تجاوزوا الحد في المكافأة‏.‏ قرأ ابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر ‏{‏شَنَانُ‏}‏ بجزم النون‏.‏ وقرأ الباقون ‏{‏شَنَانُ‏}‏ بالنصب‏.‏ وقال القتبي‏:‏ لا يقال في المصادر فعلان، وإنما يقال ذلك في الصفات مثل عطشان وسكران، وفي المصادر يقال‏:‏ فعلان مثل طيران ولهفان وشنآن‏.‏ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ‏{‏أَن صَدُّوكُمْ‏}‏ بكسر الألف على معنى الابتداء‏.‏ وقرأ الباقون بالنصب على معنى البناء‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَتَعَاوَنُواْ عَلَى البر والتقوى‏}‏ يعني‏:‏ تعانوا على أمر الله واعملوا به‏.‏ وروى ابن عباس‏:‏ البرُّ ما أمر الله تعالى به، يعني تحاثُّوا على أمر الله واعملوا به، وانتهوا عما نهى الله تعالى عنه، وامتنعوا عنه‏.‏ وهذا موافق لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «الدَّالُّ عَلَى الخَيْرِ كَفَاعِلِهِ» وقد قيل‏:‏ الدالُّ على الشر كصانعه‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإثم والعدوان‏}‏ قال القتبي‏:‏ العدوان على وجهين‏:‏ عدوان في السبيل كقوله ‏{‏وقاتلوهم حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدين للَّهِ فَإِنِ انتهوا فَلاَ عدوان إِلاَّ عَلَى الظالمين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 193‏]‏ وكقوله ‏{‏قَالَ ذَلِكَ بَيْنِى وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الاجلين قَضَيْتُ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَىَّ والله على مَا نَقُولُ وَكِيلٌ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 28‏]‏ والثاني عدوان في الظلم كقوله ‏{‏ياأيها الذين ءامنوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تتناجوا بالإثم والعدوان وَمَعْصِيَةِ الرسول وتناجوا بالبر والتقوى واتقوا الله الذى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 9‏]‏ وكقوله ‏{‏ياأيها الذين ءَامَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ الله وَلاَ الشهر الحرام وَلاَ الهدى وَلاَ القلائد ولا ءَامِّينَ البيت الحرام يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ ورضوانا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فاصطادوا وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى البر والتقوى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإثم والعدوان واتقوا الله إِنَّ الله شَدِيدُ آلْعِقَابِ‏}‏ ‏[‏سورة المائدة‏:‏ 2‏]‏ يعني به حجاج أهل اليمامة، وصارت الآية عامة في جميع الناس‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏واتقوا الله‏}‏ يقول واخشوا الله وأطيعوه فيما يأمركم به ‏{‏أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب‏}‏ إذا عاقب‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة‏}‏ يعني حرم عليكم أكل الميتة، والميتة كل ما مات حتف أنفه بغير ذكاة فهو حرام، إلا الجراد والسمك، فقد أباحهما على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال‏:‏ «أُحِلَّتْ لَنَا السَّمَكُ والجَرَادُ وَالكَبِدُ وَالطِّحَالُ» ثم قال ‏{‏والدم‏}‏ يعني حرم عليكم أكل الدم وشربه، وهو الدم المسفوح كما قال في آية أخرى

‏{‏قُل لاَ أَجِدُ فِى مَآ أُوْحِىَ إِلَىَّ مُحَرَّمًا على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 145‏]‏ وأما الدم الذي بقي بعد الإنهار فهو مباح، مثل الطحال والكبد والصفرة التي بقيت في اللحم‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وَلَحْمَ الخنزير‏}‏ يعني أكل لحم الخنزير، فذكر اللحم والمراد به اللحم والشحم وغير ذلك، وهذا حرام بإجماع المسلمين‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ‏}‏ يعني حرم عليكم أكل ما ذبح لغير الله، وأصل الإهلال رفع الصوت، ومنه استهلال الصبي، وإهلال الحج، وإنما سمي الذبح إهلالاً لأنهم كانوا يرفعون الصوت عند الذبح بذكر آلهتهم، فحرم الله تعالى ذلك‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏والمنخنقة‏}‏ وهي الشاة التي تختنق فتموت، وكان بعض أهل الجاهلية يستحلون ذلك ويأكلونها‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏والموقوذة‏}‏ يعني‏:‏ حرم عليكم أكل الموقوذة وهي التي تضرب بالخشب فتموت، وأصله في اللغة هي الإشراف على الهلاك، فإذا ضرب بالخشب حتى أشرف على الموت ثم يتركه يقال‏:‏ وقذه ويقال فلان وقيذ وقذته العبادة أي ضعف وأشرف على الهلاك‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏والمتردية‏}‏ وهي الشاة التي تخر من الجبل، أو تتردى في بئر فتموت ‏{‏والنطيحة‏}‏ وهي الشاة التي تنطح صاحبها فيقتلها‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وَمَا أَكَلَ السبع‏}‏ وهي فريسة السبع، فحرم الله تعالى أكل هذه الأشياء كلها على المؤمنين، ثم استثنى فقال‏:‏ ‏{‏إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ‏}‏ يعني إلا ما أدركتم ذكاته فذكيتموه قبل أن يموت فلا بأس بأكله‏.‏

قال القتبي‏:‏ أصل الذكاة من التوقد، يقال ذكيت النار إذا ألقيت عليها شيئاً من الحطب، وإنما سميت الذكية ذكية لأنها صارت بحال ينتفع بها‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ أصل الذكاة تمام الشيء‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ‏}‏ يعني ما أدركتم ذبحه على التمام‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب‏}‏ قال القتبي‏:‏ النصب هو حجر أو صنم منصوب، كانوا يذبحون عنده وجمعه أنصاب، ويقال‏:‏ كانوا يذبحون لأعيادهم باسم آلهتهم‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بالازلام‏}‏ والأزلام القداح، واحدها زلم على ميزان قلم وأقلام، وذلك أن أهل الجاهلية كانوا يجتمعون عشرة أنفس ويشترون جزوراً، وجعلوا لحمه على تسعة أجزاء، وأعطى كل واحد منهم سهماً من سهامه، فجمعوا السهام عند واحد منهم أو شيء من الأحجار، ثم يخرج هذا الرجل واحداً واحداً من السهام، فكل من خرج سهمه يأخذ جزءاً من ذلك اللحم، فإذا خرج تسعة من السهام لا يبقى شيء من اللحم، ولا يكون للذي بقي اسمه آخراً شيء من اللحم، وكان ثمن الجزور كله عليه‏.‏ وكان نوع آخر أنهم كانوا يجعلون عشرة من القداح، وكان لكل واحد منها سهم، ولم يكن لثلاثة منها نصيب من اللحم، وهو السفيح والمنيح والوغد، وكان للسبعة لكل سهم نصيب وهو‏:‏ القذ، والتوأم، والرقيب، والمعلى، والحلس، والناقس، والمسبل‏.‏

ويقال‏:‏ كان إذا أراد واحد منهم السفر أخرج سهمين من القداح، في واحد منها مكتوب أمرني ربي، وفي الآخر نهاني ربي، فيخرج أحدهما، فإن خرج باسمه أمرني ربي وجب عليه الخروج ولم يجز له التخلف، وإن خرج الآخر لا يسعه الخروج، فنهى الله تعالى عن ذلك كله بقوله‏:‏ ‏{‏ذلكم فِسْقٌ‏}‏ يعني هذه الأفعال معصية وضلالة واستحلالها كفر‏.‏

قم قال‏:‏ ‏{‏اليوم يَئِسَ الذين كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ‏}‏ يعني كفار العرب أن تعودوا كفاراً حين حج النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع وليس معهم مشرك‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ نزلت هذه الآية حين فتح مكة، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح مكة لثمان بقين من رمضان سنة سبع، ويقال‏:‏ سنة ثمان‏.‏ ودخلها ونادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ألا من قال لا إله إلا الله فهو آمن، ومن وضع السلاح فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن‏.‏ فانقادت قريش لأمر الله ورفعوا أيديهم وأسلموا‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلاَ تَخْشَوْهُمْ‏}‏ يقول‏:‏ فلا تخشوا صولة المشركين فأنا معكم وناصركم ‏{‏واخشون‏}‏ في ترك أمري‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ‏}‏ يعني أتممت لكم شرائع دينكم، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم حيث كان بمكة لم يكن إلا فريضة الصلاة وحدها، فلما قدم المدينة أنزل الله الحلال والحرام، فنزلت هذه الآية ‏{‏اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ‏}‏ يعني دينكم، حلالكم وحرامكم‏.‏ وروى حماد بن سلمة عن عمار بن أبي عمار عن ابن عباس، أنه قرأ ‏{‏اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ‏}‏ فقال له يهودي‏:‏ لو نزلت هذه الآية علينا لاتخذنا ذلك اليوم عيداً‏.‏ فقال ابن عباس فإنها نزلت في يوم عيدين يوم الجمعة، ويوم عرفة‏.‏

قال الفقيه‏:‏ حدّثنا الخليل بن أحمد، قال‏:‏ حدّثنا ابن صاعد، قال‏:‏ حدّثنا يعقوب بن إبراهيم الدورقي، حدّثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، عن قيس بن مسلم، عن طارق أن اليهود قالوا لعمر بن الخطاب‏:‏ إنكم لتقرؤون آية لو نزلت فينا لاتخذنا ذلك اليوم عيداً ‏{‏اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ‏}‏‏.‏ فقال عمر‏:‏ إني لأعلم حيث نزلت، وفي أي يوم نزلت، أنزلت بيوم عرفة ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف بعرفة‏.‏ فإن قيل‏:‏ في ظاهر هذه الآية دليل أن الدّين يزيد حيث قال ‏{‏اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ‏}‏‏.‏ قيل له‏:‏ ليس فيها دليل، لأنه أخبر أنه أكمل في ذلك اليوم، وليس فيها دليل أنه لم يكمل قبل ذلك‏.‏ ألا ترى أنه قال في سياق الآية ‏{‏وَرَضِيتُ لَكُمُ الأسلام دِيناً‏}‏ ليس فيه دليل أنه لم يرض قبل ذلك، ولكن معناه أنه قد أظهر وقرر، كما جاء في الخبر أن رجلاً أعتق ستة أعبد له في مرضه، فأعتق رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنين منهم يعني أظهر عتقهما، وقرر ولم يرد به الابتداء‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ معناه اليوم أتممت لكم ظهور دينكم وغلبة دينكم ونصرته‏.‏ وقال قتادة‏:‏ معناه أخلص لكم دينكم‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى‏}‏ يعني منتي، فلم يحج معكم مشرك ‏{‏وَرَضِيتُ‏}‏ يعني اخترت ‏{‏لَكُمُ الأسلام دِيناً‏}‏ وروي في الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم عاش بعد نزول هذه الآية إحدى وثمانين ليلة، ثم مضى لسبيله صلوات الله عليه‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ ‏{‏اليوم‏}‏ صار نصباً للظرف، ومعناه اليوم أكملت لكم دينكم‏.‏ وقال معاذ بن جبل‏:‏ النعمة لا تكون إلا بعد دخول الجنة، فصار كأنه قال‏:‏ رضيت لكم الجنة لأنه لا تكون النعمة تماماً حتى يضع قدميه فيها‏.‏ ثم رجع إلى أول الآية فقال‏:‏ ‏{‏فَمَنِ اضطر فِى مَخْمَصَةٍ‏}‏ وذلك أنه لما بيّن المحرمات علم أن بعض الناس اضطروا إلى أكله، فأباح لهم أكله عند الضرورة فقال‏:‏ ‏{‏فَمَنِ اضطر‏}‏ يعني‏:‏ أجهد إلى شيء مما حرم الله تعالى عليه ‏{‏فِى مَخْمَصَةٍ‏}‏ يعني مجاعة، وأصل الخمص ضمور البطن ودقته، فإذا جاع فقد خمص بطنه‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ‏}‏ يعني غير متعمد المعصية لأكله فوق الشبع، وأصل الجنف الميل‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ يعني غير متجاوز للحد، وغير آكل لها على وجه التلذذ فلا إثم عليه في أكله‏.‏ وقال أهل المدينة‏:‏ المضطر يأكل حتى يشبع‏.‏ وقال أبو حنيفة وأصحابه رحمهم الله‏:‏ يأكل مقدار ما يأمن به الموت، وكذلك قال الشافعي‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ يعني‏:‏ غفور فيما أكل، رحيم حين رَخَّص له في أكله عند الاضطرار‏.‏ قرأ عاصم وحمزة وأبو عمرو ‏{‏فَمَنِ اضطر‏}‏ بكسر النون لاجتماع الساكنين، وقرأ الباقون بالضم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏4- 5‏]‏

‏{‏يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ‏(‏4‏)‏ الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ‏(‏5‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ‏}‏ نزلت الآية في شأن «عديّ بن حاتم الطائي» قال‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إنا قوم نتصيَّد بهذه الكلاب والبزاة فما يحل لنا منها‏؟‏ فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ مَا عَلَّمْتَ مِنْ كَلْبٍ أَوْ بَازِيٍّ ثُمَّ أَرْسَلْتَهُ وَذَكَرْتَ اسْمَ الله تَعَالَى عَلَيْهِ، فَكُلْ مَا أمْسَكَ عَلَيْكَ ‏"‏ فقلت‏:‏ وإن قتله‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏ إنْ قَتَلَهُ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ شَيْئاً فَكُلْ، فَإنَّمَا أَمْسَكَ عَلَيْكَ‏.‏ وَإنْ أَكَلَ مِنْهُ شَيْئاً فَلاَ تَأْكُلْ، فَإنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ ‏"‏ قال‏:‏ قلت فإذا خالط كلابنا كلابٌ أخرى حين ترسلها‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏ ا تَأْكُلْ حَتَّى تَعْلَمَ أَنَّ كَلْبَكَ هُوَ الَّذِي أَمْسَكَ عَلَيْكَ ‏"‏ ونزلت هذه الآية ‏{‏يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ‏}‏ يعني ماذا رخص لهم من الصيد ويقال لما أنزل قوله تعالى ‏{‏حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ‏}‏ قالوا‏:‏ إن الله تعالى حرم هذه الأشياء، فأي شيء لنا حلال يا رسول الله‏؟‏ ‏{‏قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات‏}‏ يعني رخص لكم الحلالات من الذبائح ‏{‏وَمَا عَلَّمْتُمْ مّنَ الجوارح‏}‏ يعني وأحلّ لكم صيد ما علمتم من الجوارح من الطير والكلاب الكواسب‏.‏ ويقال‏:‏ الجوارح الجارحات‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏مُكَلّبِينَ‏}‏ بكسر اللام، وقرأ بعضهم بالنصب، فمن قرأ بالكسر يعني به أصحاب الكلاب المعلِّمين للكلاب، ومن قرأ بالنصب أراد به الكلاب يعني الكلاب المعلَّمة‏.‏ ‏{‏مُكَلّبِينَ‏}‏ يعني معلمين‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏تُعَلّمُونَهُنَّ‏}‏ يعني تؤدبونهن في طلب الصيد ‏{‏مِمَّا عَلَّمَكُمُ الله‏}‏ يقول‏:‏ كما أدبكم الله تعالى‏.‏ وروي عن مجاهد أنه سئل عن الصقر والبازي والفهد، قال‏:‏ هذه كلها جوارح ولا بأس بصيده إذا كان معلماً‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ حبسن عليكم ‏{‏واذكروا اسم الله عَلَيْهِ‏}‏ إذا أرسلتم الكلاب على الصيد‏.‏ وفي هذه الآية دليل أن الكلب إذا كان أكل لا يؤكل لأنه أمسك لنفسه، وفيها دليل أنه لا يجوز إلا بالتسمية لأنه قد أباح على شرط التسمية، وعلى شرط أن يمسك لصاحبه، وفيها دليل أيضاً أن الكلب إذا كان غير معلَّم لا يجوز أكلُ صيده، وفيها دليل أيضاً أن العالِم له من الفضيلة ما ليس للجاهل، لأن الكلب إذا عُلِّم يكون له فضيلة على سائر الكلاب، وأن الإنسان إذا كان له علم أولى أن يكون له فضل على سائر الناس وهذا كما روي عن عليّ كرم الله وجهه أنه قال‏:‏ لكل شيء قيمة وقيمة المرء ما يُحْسِن‏.‏

ثم خَوّفهم فقال‏:‏ ‏{‏واتقوا الله‏}‏ أي اخشوا الله ولا تأكلوا الميتة، ولا تأكلوا ما لم يذكر اسم الله عليه ‏{‏إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب‏}‏ يعني سريع المجازاة، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏اليوم أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات‏}‏ يعني المذبوحات من الحلال، يعني اليوم أظهر وبيّن حله‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب‏}‏ يعني ذبائح أهل الكتاب ‏{‏لَكُمُ الطيبات‏}‏ يعني حلال لكم أكله ‏{‏وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ‏}‏ يعني ذبائحكم وطعامكم رخص لهم أكله‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ تأويله أحل لكم أن تطعموهم لأن الحلال والفرائض إنما تعتمد على أهل الشريعة‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏والمحصنات مِنَ المؤمنات‏}‏ يعني أحل لكم تزوج العفائف من المؤمنات ‏{‏والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب‏}‏ يعني العفائف من أهل الكتاب ‏{‏مِن قَبْلِكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ أُعْطوا الكتاب من قبل كتابكم، وهو التوراة والإنجيل، واختلفوا في نكاح الصابئة، وقد ذكرناه في سورة البقرة‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏اليوم أُحِلَّ لَكُمُ‏}‏ يعني أعطيتموهن مهورهن ‏{‏مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مسافحين‏}‏ يقول‏:‏ كونوا متعففين عن الزنى ‏{‏وَلاَ مُتَّخِذِى أَخْدَانٍ‏}‏ يقول‏:‏ لا تتخذوا خِدْناً فتزنوا بها سراً، وذلك أن أهل الجاهلية كانوا يعيِّرون من يزني في العلانية ولا يعيرون من يزني سراً، فحرم الله زنى السر والعلانية، فلما نزلت هذه الآية قلن نساء أهل الكتاب‏:‏ لولا أن الله تعالى قد رضي بديننا لم يبح للمسلمين نكاحنا، فنزل ‏{‏وَمَن يَكْفُرْ بالإيمان فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ‏}‏ قيل‏:‏ نزل قوله ‏{‏حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة‏}‏ ثم رخص من حالة الاضطرار، فقال بعضهم‏:‏ لا نأخذ الرخصة من الاضطرار فنزل ‏{‏وَمَن يَكْفُرْ بالإيمان‏}‏ ويقال هذا ابتداء خطاب، وهو لجميع المسلمين فقال‏:‏ ‏{‏وَمَن يَكْفُرْ بالإيمان‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يعني من يكفر بالتوحيد بشهادة أن لا إله إلا الله فقد حبط عمله‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ معناه ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله، يعني بطل ثواب عمله‏.‏ ‏{‏وَهُوَ فِى الاخرة مِنَ الخاسرين‏}‏ يعني من المغبونين في العقوبة، ولهذا قال أصحابنا رحمهم الله‏:‏ إن الرجل إذا صلى ثم ارتد ثم أسلم في وقت تلك الصلاة، وجب عليه إعادة تلك الصلاة، ولو كان حج حجة الإسلام فعليه أن يعيد الحج، لأنه قد بطل ما فعل قبل ارتداده‏.‏